فصل: (سورة آل عمران: الآيات 98- 99)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعن عمر رضى الله عنه: «لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه» وعند أبى حنيفة: من لزمه القتل في الحل بقصاص أو ردّة أو زنى فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج. وقيل: آمنا من النار.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا» وعنه عليه الصلاة والسلام «الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة» وهما مقبرتا مكة والمدينة.
وعن ابن مسعود: وقف رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة، فقال: «يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر، يدخلون الجنة بغير حساب، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر» وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من صبر على حرّ مكة ساعة من نهار، تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام» من استطاع بدل من الناس.
وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة، وكذا عن ابن عباس وابن عمر وعليه أكثر العلماء.
وعن ابن الزبير: هو على قدر القوّة. ومذهب مالك أن الرجل إذا وثق بقوته لزمه. وعنه: ذلك على قدر الطاقة، وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر، وقد يقدر عليه من لا زاد له ولا راحلة، وعن الضحاك: إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع. وقيل له في ذلك فقال: إن كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ بل كان ينطلق إليه ولو حبوا فكذلك يجب عليه الحج. والضمير في {إِلَيْهِ} للبيت أو للحج.
وكل مأتىّ إلى الشيء فهو سبيل إليه وفي هذا الكلام أنواع من التوكيد والتشديد ومنها قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} يعنى أنه حق واجب للَّه في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته. ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه من استطاع إليه سبيلا، وفيه ضربان من التأكيد: أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له، والثاني أن الأيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين. ومنها قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} مكان ومن لم يحج تغليظا على تارك الحج ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا» ونحوه من التغليظ «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» ومنها ذكر الاستغناء عنه وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان، ومنها قوله: {عَنِ الْعالَمِينَ} وإن لم يقل عنه، وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل فكان أدلّ على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه.
وعن سعيد بن المسيب نزلت في اليهود، فإنهم قالوا: الحج إلى مكة غير واجب وروى أنه لما نزل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال، «إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا: لا نؤمن به ولا نصلى إليه ولا نحجه، فنزل: {وَمَنْ كَفَرَ} وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «حجوا قبل أن لا تحجوا، فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة» وروى: «حجوا قبل أن لا تحجوا، حجوا قبل أن يمنع البر جانبه» وعن ابن مسعود: حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت.
وعن عمر رضى الله عنه: لو ترك الناس الحج عاما واحدا ما نوظروا. وقرئ حج البيت بالكسر.

.[سورة آل عمران: الآيات 98- 99]

{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ الله وَالله شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا الله بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)}.
{وَالله شَهِيدٌ} الواو للحال. والمعنى: لم تكفرون بآيات الله التي دلتكم على صدق محمد صلى الله عليه وسلم والحال أن الله شهيد على أعمالكم فمجازيكم عليها، وهذه الحال توجب أن لا تجسروا على الكفر بآياته. قرأ الحسن: تصدّون، من أصدّه عَنْ سَبِيلِ الله عن دين حق علم أنه سبيل الله التي أمر بسلوكها وهو الإسلام، وكانوا يفتنون المؤمنين ويحتالون لصدّهم عنه، ويمنعون من أراد الدخول فيه بجهدهم. وقيل: أتت اليهود الأوس والخزرج فذكروهم ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروب ليعودوا لمثله.
{تَبْغُونَها عِوَجًا} تطلبون لها اعوجاجًا وميلا عن القصد والاستقامة. فإن قلت: كيف تبغونها عوجا وهو محال؟ قلت فيه معنيان: أحدهما أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أنّ فيها عوجا بقولكم: إن شريعة موسى لا تنسخ، وبتغييركم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها ونحو ذلك. والثاني: أنكم تتبعون أنفسكم في إخفاء الحق وابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم {وَأَنْتُمْ شُهَداءُ} أنها سبيل الله لا يصدّ عنها إلا ضال مضل، أو وأنتم شهداء بين أهل دينكم، عدول يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في عظائم أمورهم، وهم الأحبار {وَمَا الله بِغافِلٍ} وعيد، ومحل تبغونها نصب على الحال.

.[سورة آل عمران: آية 100]

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100)}.
قيل مرَّ شاس بن قيس اليهودي- وكان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد لهم- على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون، فغاظه ذلك حيث تألفوا واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة وقال: ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، فأمر شابا من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وينشدهم بعض ما قيل فيه من الأشعار، وكان يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس. ففعل فتنازع القوم عند ذلك وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا: السلاح السلاح، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار فقال: أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم. فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوّهم، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان يوم أقبح أوّلا وأحسن آخرًا من ذلك اليوم.

.[سورة آل عمران: آية 101]

{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِالله فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)}.
{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجيب، والمعنى: من أين يتطرق إليكم الكفر والحال أن آيات الله وهي القرآن المعجز {تُتْلى عَلَيْكُمْ} على لسان الرسول غضة طرية وبين أظهركم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِالله} ومن يتمسك بدينه. ويجوز أن يكون حثا لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم {فَقَدْ هُدِيَ} فقد حصل له الهدى لا محالة كما تقول: إذا جئت فلانا فقد أفلحت، كأن الهدى قد حصل فهو يخبر عنه حاصلا. ومعنى التوقع في «قد» ظاهر لأنّ المعتصم بالله متوقع للهدى، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده.

.[سورة آل عمران: الآيات 102- 103]

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوانًا وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)}.
{حَقَّ تُقاتِهِ} واجب تقواه وما يحق منها، وهو القيام بالمواجب واجتناب المحارم، ونحوه {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} يريد: بالغوا في التقوى حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئا.
وعن عبد الله: هو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى وروى مرفوعا. وقيل:
هو أن لا تأخذه في الله لومة لائم، ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو أبيه. وقيل: لا يتقى الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه، والتقاة من اتقى كالتؤدة من اتأد {وَلا تَمُوتُنَّ} معناه:
ولا تكوننّ على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت، كما تقول لمن تستعين به على لقاء العدوّ: لا تأتنى إلا وأنت على حصان، فلا تنهاه عن الإتيان ولكنك تنهاه عن خلاف الحال التي شرطت عليه في وقت الإتيان. قولهم اعتصمت بحبله: يجوز أن يكون تمثيلا لاستظهاره به ووثوقه بحمايته، بامتساك المتدلى من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه، وأن يكون الحبل استعارة لعهده والاعتصام لوثوقه بالعهد، أو ترشيحا لاستعارة الحبل بما يناسبه. والمعنى:
واجتمعوا على استعانتكم بالله ووثوقكم به ولا تفرقوا عنه. أو واجتمعوا على التمسك بعهده إلى عباده وهو الإيمان والطاعة أو بكتابه لقول النبي صلى الله عليه وسلم «القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الردّ، من قال به صدق ومن عمل به رشد، ومن اعتصم به هدى إلى صراط مستقيم». وَلا تَفَرَّقُوا ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كما اختلفت اليهود والنصارى، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية متدابرين يعادى بعضكم بعضا ويحاربه، أو ولا تحدثوا ما يكون عنه التفرق ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم عليها مما يأباه جامعكم والمؤلف بينكم، وهو اتباع الحق والتمسك بالإسلام. كانوا في الجاهلية بينهم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة، فألف الله بين قلوبهم بالإسلام. وقذف فيها المحبة فتحابوا وتوافقوا وصاروا إِخْوانًا متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد قد نظم بينهم وأزال الاختلاف، وهو الأخوة في الله: وقيل: هم الأوس والخزرج، كانا أخوين لأب وأم، فوقعت بينهما العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام وألف بينهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ} وكنتم مشفين على أن تقعوا في نار جهنم لما كنتم عليه من الكفر {فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها} بالإسلام. والضمير للحفرة أو للنار أو للشفا وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة وهو منها كما قال:
كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ

وشفا الحفرة وشفتها: حرفها، بالتذكير والتأنيث، ولامها واو، إلا أنها في المذكر مقلوبة وفي المؤنث محذوفة، ونحو الشفا والشفة الجانب والجانبة. فإن قلت: كيف جعلوا على حرف حفرة من النار؟ قلت: لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها مشفين على الوقوع فيها كَذلِكَ مثل ذلك البيان البليغ {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إرادة أن تزدادوا هدى.

.[سورة آل عمران: آية 104]

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)}.
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} من للتبعيض، لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من فروض الكفايات، ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر، وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشر، فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين، ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا، أو على مَن الإنكار عليه عبث، كالإنكار على أصحاب المآصر والجلادين وأضرابهم. وقيل «من» للتبيين، بمعنى: وكونوا أمّة تأمرون، كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ}..
{وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} هم الأخصاء بالفلاح دون غيرهم.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل وهو على المنبر: من خير الناس؟ قال: «آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم للَّه وأوصلهم». وعنه عليه السلام: «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسوله، وخليفة كتابه» وعن على رضى الله عنه: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. ومن شنئ الفاسقين وغضب للَّه، غضب الله له.
وعن حذيفة: يأتى على الناس زمان تكون فيهم جيفة الحمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
وعن سفيان الثوري. إذا كان الرجل محببا في جيرانه محمودًا عند إخوانه فاعلم أنه مداهن. والأمر بالمعروف تابع للمأمور به، إن كان واجبا فواجب، وإن كان ندبا فندب. وأما النهى عن المنكر فواجب كله، لأنّ جميع المنكر تركه واجب لاتصافه بالقبح. فإن قلت: ما طريق الوجوب؟ قلت: قد اختلف فيه الشيخان، فعند أبى على: السمع والعقل، وعند أبى هاشم: السمع وحده. فإن قلت: ما شرائط النهى؟
قلت: أن يعلم الناهي أن ما ينكره قبيح، لأنه إذا لم يعلم لم يأمن أن ينكر الحسن، وأن لا يكون ما ينهى عنه واقعا، لأن الواقع لا يحسن النهى عنه، وإنما يحسن الذم عليه والنهى عن أمثاله، وأن لا يغلب على ظنه أن المنهي يزيد في منكراته، وأن لا يغلب على ظنه أن نهيه لا يؤثر لأنه عبث.
فإن قلت: فما شروط الوجوب؟ قلت: أن يغلب على ظنه وقوع المعصية نحو أن يرى الشارب قد تهيأ لشرب الخمر بإعداد آلاته، وأن لا يغلب على ظنه أنه إن أنكر لحقته مضرة عظيمة. فإن قلت: كيف يباشر الإنكار؟ قلت: يبتدئ بالسهل، فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب، لأنّ الغرض كف المنكر. قال الله تعالى: {فأصلحوا بينهما}، ثم قال: فقاتلوا، فإن قلت: فمن يباشره؟ قلت: كل مسلم تمكن منه واختص بشرائطه، وقد أجمعوا أن من رأى غيره تاركا للصلاة وجب عليه الإنكار، لأنه معلوم قبحه لكل أحد. وأما الإنكار الذي بالقتال، فالإمام وخلفاؤه أولى لأنهم أعلم بالسياسة ومعهم عدتها. فإن قلت: فمن يُؤمر ويُنهى؟ قلت: كل مكلف، وغير المكلف إذا همَّ بضرر غيره مُنع، كالصبيان والمجانين، وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعوّدوها، كما يؤخذون بالصلاة ليمرنوا عليها. فإن قلت: هل يجب على مرتكب المنكر أن ينهى عما يرتكبه قلت: نعم يجب عليه، لأن ترك ارتكابه وإنكاره واجبان عليه فبتركه أحد الواجبين لا يسقط عنه الواجب الآخر.
وعن السلف: مروا بالخير وإن لم تفعلوا.
وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول: لا أقول ما لا أفعل، فقال: وأينا يفعل ما يقول؟ ودّ الشيطان لو ظفر بهذه منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن منكر. فإن قلت. كيف قيل {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}؟ قلت: الدعاء إلى الخير عامّ في التكاليف من الأفعال والتروك والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر خاص، فجيء بالعام ثم عطف عليه الخاص إيذانا بفضله، كقوله: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطى}.

.[سورة آل عمران: الآيات 105- 107]

{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ الله هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)}.